إن مشاعر العزة وثقافة التحرر قلَّت في واقع المسلمين اليوم، وكادت أن تكون تاريخًا بعيدًا جد ًا، ولما
قرأت سيرة مانديلا جددت تلك القصة معاني تستحق الاهتمام والوعي في بعض بلاد المسلمين التي
تشارك إفريقية الجنوبية الكثير من الأحوال المشابهة.
خرج مانديلا من السجن بعد عشرة آلاف يوم كاملة في المعتقل ، وكان عمره واحد ًا وسبعين عامًا وقاد دولته الجديدة في طريق لم يسبق أن سارت فيه من قبل . وكتابه “مسيرة طويلة نحو الحرية ” - دار الهلال
، مصر ، عام 1995، ترجمة د .فاطمة نصر - من أجمل الكتب ، بل ومن كتب العالم الثالث المهمة التي روت واحدة من سِيَر العالم المغلوب وكيف كافحت أمة ل تحصل بعد قرون متطاولة على حريتها . فقد احتاجت جنوب إفريقية إلى ثلاثمائة وأربعين عامًا لتنال استقلالها ، ولا تتوهموا أن جميع الإفريقيين في جنوب إفريقية سعوا إلى الاستقلال ، ولا تتوهموا أن كل الرجال يحبون الحرية ويسعون لها ! فليس كل
السود قاتلوا من أجل الحرية والاستقلال ، ولا كلهم سُجن ثلث قرن كما حدث لمانديلا ، فليس كل
الناس يسعون للحرية ولا كلهم يحبها . لا ، بل استقلت جنوب إفريقية - أو نال السود حقوقهم على
الأصح - على الرغم من كراهية عدد من السود غير قليل؛ فمنهم أعداد هائلة كانت تقاتل في صفوف
المستعمِرين - الأ فريكانو “البيض” وترى في مانديلا شرًا وشيوعيًا أحمر ! يريد أن يحرمهم من الخير الذي
جاء به السادة البيض ، فقد جاءوا لهم بالإنجيل والدخان والموسيقى والثياب الحمر المرقشة ، لقد جاءوا
لهم بالذل والخنوع ، والراحة من التفكير والمبادرة ، أراحوهم من مسؤولية القرار ، ومن ثقل الاختيار ،
وتلك نِعَم يهنأ بها العبيد - دائمًا - في كل مكان ، والعبودية ليست لونًا ولا جنسًا ولكنها حالة نفسية ،
أو “عجز حُ ْ كمي ” كما يعرفها الفقهاء . وإن الأحرار من طراز آخر من الرجال - أمثال مانديلا -
يهون عليه أن يموت أو يُسجن ثلث قرن ولا تهون عليه كر امته وحريته . كان زعماء “المؤتمر” في السجن
مطارَدين أو يعملون ضد الاحتلال سرًا ، وكان بعض المتعلمين الدكاترة والقساوسة والصحفيين من
السود أنفسهم - ويا َللأسف ! - ضد الاستقلال “الشرير” وضد “سرطان” الحرية ! مع أن البيض
“السادة” كانوا لا يؤاكلونهم ولا يشاربونه م ولا يزاوجونهم ، ولا يستخدمون المواصلات التي يركبها
السادة، ولا يسمحون لهم بالسكن في مناطقهم ، ويحرمون عليهم حتى بعض أنواع اللباس ، ويمنعونهم
حرية التنقل ، وبعض أنواع العمل ، بل لا يرى فيهم البيض بشرًا من البشر ! ومع هذا فقد كانت طائفة
من السود تقدس البيض و تعبدهم وتطيعهم بلا حدود . كان هؤلاء العملاء من السود خونة للحرية
وكانوا جواسيس للحكومة العنصرية وكانوا رَصاصًا في قلوب شعبهم لصالح الأجانب ، ولكأن
“الرصافي” عاش تلك السنوات في جنوب إفريقية ؛ ليقول :
عبيد للأجانب وهم دومًا ****** على أبناء جلدتهم ُأسود
فقد كان العنصريون البيض يجدون طبقة متغرّبة من السود - يسمونها متعلمة - تافهة الشخصية تابعة
للبيض، يحاربون بها الشعب الأسود نفسه ، وقد كانت هذه الطبقة حذاءً تسعى عليه الطبقة العنصرية
لتحقيق مصالحها وخدمتها ، أو وقاءًا للبيض ، تقيهم من حراب الإفريقيين السود ويقع فيها الضرب
ويتقي بها السيد الأبيض الأيدي المضرجة بالدم ، التي تطرق باب الحرية ، ولكن السود أدمنوا طرْق باب
الحرية حتى نالوها.
يقوم هؤلاء المتغربون - “طبقة الوسطاء ” بين السود والبيض - بجمع السود في مصانع البيض وترتيب
عملهم والإشراف على إخلاصهم ، وبذل كل جهد هم للسيد الأبيض ، منهم من يشرف على قومه
العمال وعملهم من قبل الفجر إلى الليل في مناجم الذهب والمصانع وأعمال البناء وتربية الحيوانات
والمزارع ، ينتجون الملايين للمستغل الأبيض ويَقنعون ببعض جنيهات في نهاية الشهور السود تحت أطباق
الأرض . لا تكاد تكفي هذه المب الغ الزهيدة لطعامهم ومسكنهم غير الإنساني في مساكن المصانع
والمزارع وأحياء الفقر ، حيث تقل كثيرًا عن غرف كلاب السادة البيض !
أما السماسرة الوسطاء فهم قيادات سوداء يصنعها البيض ، قساوسة و ُ كتَّاب وموظفون ، ويعطونهم بعض
المزايا عن الشعب ويدفعون لهم أكثر ليستمروا في إخضاع جنسهم الأسود للبيض ، وهذه الطبقة كانت
رأس الحربة في قلب الشعب ، وهي الأخطر في وجه مانديلا والمؤتمر الإفريقي ، وهي التي كانت حاجزًا
دون أن يتصل بالشعب ويبلِّغه رسالته ويلهمه حريته وكرامته ، هذه الطبقة من الشعب الإفريقي جمعت
اللؤم والدناءة من الشعبين وباعت كرامتها وحريتها للأفريكانو ، في البداية عن جهل وسذاجة وشهوة
للمَيزات المادية ، وفيما بعد عن عمالة ولؤم وتنكُّر لإنسانيتها وعن آلية حيوانية وانعدام للإنسانية والخلق
في سلوكها ، ومَن يهن يسهل الهوان عليه . كانت هذه الطبقة ترى إخوانها وأخواتها وشعبها يذ ل
ويمتهن بها وهي لا تدري ولا تحسب ، بل بعضهم يقول : “إنني أقوم بما يمليه عليَّ عملي وواجبي ” !! بل
يجرؤ بعضهم ويقول بما يمليه عليه عقلي ووطنيتي !! ومهما وضعت من علامات التعجب فإنها لا تغني
شيئًا تجاه هذا الموقف من شخص يُتوقع أنه بقي له عمل وواجب وعقل ووطنية وهو يرى قادة المؤتمر في
السجن غذاؤهم الجوع أو حساء الذرة البارد والمتعفن ، ولما طالبوا بالخبز قال لهم السجانون في صفاقة :
“الخبز ضار بالإنسان ” ! هكذا قالوا لمانديلا ورفاقه . لِمَ لا يضر الخبز بالإنسان ؟ ! ، والحرية أضر بنفوس
الشعوب من الخبز ، فالحيوان يطعم و لا يثور ، ولكن الحرية غذاء مدمر لكل وسيلة وقاعدة ونظام مستبد .
غير أن المستبد يفقد الكرامة والإنسانية فيتوقع أن الناس - وفيهم العباقرة والدهاة - ليسوا بشرًا ! لأنه
بلغ دركات العنصرية وظلام الكفر وانحطاط العقل والعاطفة ، فتنقلب عنده الأمور . ويرى الكرامة
والطعام الطيب مضرًا بالبشر ، أو مضرًا بغيره هو ؛ لأنه هو البشر الوحيد في العالم ! هكذا يفكر اليهود
والأفريكانو والنازيون .
وإذا كان الخبز خطيرًا إلى هذا الحد فكيف بالحرية ؟!! ، إنها قنابل نووية .
وعلى عكس تلك النوعية الرخيصة من السود يفاجئنا مانديلا بذكر قصة المحامي الأبيض “برام منيشر” ،
وهو ابن لرئيس وزارء مستعمرة نهر أورانج وكان والده رئيس قضاة ، كان يدافع عن مانديلا وأعضاء
المؤتمر وكان يؤرقه أن الرجال الذين يدافع عنهم يذهبون إلى السجن ، بينما يعيش هو حرًا طليقًا ! وبعد
محاكمة ريفونيا قرر المحامي الأبيض أن يلحق بالعمل السري مع السود أنصار مانديلا ضد أعداء الإنسانية
البيض “قومه” ، ونصحه مانديلا أثناء المحاكمة ألا يفعل ذلك ؛ لأنه يخدم المعركة أفضل في قاعة المحكمة ،
وحتى يرى العالم أفريكانيًا وابن رئيس قضاة ينافح عن المظلومين ، ولكن لشهامته لم يكن ليتحمل رؤية
نفسه حرًا والأبرياء يعانون ، فقد كان كالقائد الذي يقاتل جنبًا إلى جنب مع جنوده ، لم يرد أن يطلب
من الآخرين أن يقدموا تضحية يتورع هو عنها ، والتحق بالعمل السري ضد البيض (قومه) ، فُقبض
عليه ثم أفرج عنه بكفالة ، وقبض عليه مرة أخرى وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة ، ولما أصابه السرطان
في السجن شنت الصحافة حملة للإفراج عنه ومات بعد خروجه واستمرت الحكومة البيضاء في مطاردته
، حتى بعد وفاته وصادرت رماد جثته بعد حرقها ! وهكذا قد يخرج حي الهمة شريف الطباع من منبت
السوء والوحشية أحيانًا .
ويقول مانديلا بعد هذا :
“قدم برام فنيشر أ كبر التضحيات على الإطلاق ، فمهما كانت معاناتي في بحثي عن الحرية فقد كنت أستمد القوة من كوْني مناضلا مع ومن أجل شعبي ، أما برام فكان رجلا حرًا ناضل ضد شعبه ، من أجل أن يضمن الحرية للآخرين ”
(ص 257) ، إنه رجل شريف يحترم ذوي المواقف
ويقدرها، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان “اُلم ْ طعم” حيًا لوهبت له هؤلاء النتنى
(أسرى بدر)
.وقد وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم موقفًا شهمًا لم ينسه له على الرغم من كفره